التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
لقد انعكست إسلامية محمد الفاتح على جوانب كثيرة من حياته، فلم يكن مجرد قائد عسكري يوسع من أملاك دولته، ولكنه كان في المقام الأول مجاهدًا في سبيل الله
أوَّلاً: إعلان الإسلاميَّة:
قال الفاتح:
«نيَّتي: امتثالي لأمر الله: وجاهدوا في سبيل الله..
وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني.. دين الله..
وعزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعًا بجنودي، جند الله..
وتفكيري: منصَبٌّ على الفتح، على النصر، وعلى الفوز، بلطف الله..
وجهادي: بالنفس والمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله..
وأشواقي: الغزو.. الغزو.. مئات الآلاف من المرَّات لوجه الله..
ورجائي: في نصر الله، وسموُّ الدولة على أعداء الله..»[1]!
هذه الأبيات الشعرية الرقيقة توضِّح لنا المنطلق الذي كان يتحرك منه الفاتح رحمه الله. لم يكن عمله عاديًّا، إنما بارك الله فيه حتى بقيت آثاره عدة قرون بعد موته، وحفر اسمه في التاريخ مع أنه مات وهو في التاسعة والأربعين من عمره فقط، وأحسب أن هذا كان بسبب المنطلق الإسلامي الصرف الذي كان يتحرك منه. لقد دافع عنه الله في مواقف متعددة من حياته. حاربه أعداء لا حصر لهم، واجتمع عليه العمالقة في زمانه، وكان الله ينجيه من كل أزمة. نعم أصيب وتعرَّض لهزائم لكنه لم ينكسر أبدًا، إنما كان يقوم أقوى وأشد.
لقد انعكست إسلامية الفاتح على جوانب كثيرة من حياته، وفي هذا الفصل سنناقش هذا الانعكاس على ثلاثة جوانب فقط منها؛ وهي مسألة إصراره رحمه الله على إعلان إسلاميته، ومسألة طموحه الكبير دومًا، وأخيرًا مسألة استمرارية عمله وعدم ركونه للراحة أبدًا، مع العلم أن إسلامية الفاتح كانت منعكسة على جوانب أخرى كثيرة من حياته رحمه الله، ولكن أردنا فقط أن نضرب بعض الأمثلة.
لم يكن الفاتح رحمه الله مجرَّد قائدٍ عسكريٍّ يُحقِّق نجاحات، ويُوَسِّع من أملاك دولته حتى يُحوِّلها إلى إمبراطورية، ولكنَّه كان في المقام الأوَّل مجاهدًا في سبيل الله يُحقِّق المجد لأمَّة الإسلام قبل أن يُحقِّقه لنفسه أو للعثمانيِّين. إنَّ هذا الأمر واضحٌ جدًّا في سيرته، سواءٌ في أقواله أم في أفعاله، ولئن كان بعض القادة يستطيعون ادِّعاء هذه الإسلاميَّة في موقفٍ أو مواقف فإنَّهم لا يستطيعون فعل ذلك على مدار ثلاثين سنة متَّصلة إلَّا إذا كان اتِّجاههم هذا صادقًا ومقصودًا.
إنَّ أهداف القادة والفاتحين كثيرة، ولكن أعلاها شأنًا وأعظمها قيمة، ما كان لله عز وجل، وما كان لإعلاء كلمة الدين، وإعزاز شأن الأمَّة..
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»[2].
ونحن لا نطَّلع على القلوب، إنَّما لنا الظاهر، والقلب لا يعلمه إلَّا الله، ولذلك يحكم الناس على الأشخاص بما يرونه من ظاهر أعمالهم، ولهذا وجب على القادة والزعماء والعلماء وعامَّة القدوات أن «يُعلنوا» إسلاميَّتهم بشكلٍ واضحٍ في كلِّ أعمالهم، فهنا «يَرى» الناسُ الأفعالَ والنتائج الناجحة على أنَّها إضافةٌ لأمَّة الإسلام وليست مجرَّد إضافةٍ للشخص الناجح، وهذا يُمثِّل دعوةً صالحةً عظيمةً لكلٍّ من المسلمين وغير المسلمين، فلا يستقيم هنا للقائد أن يُخْفِي إسلاميَّته ويتذرَّع بأنَّ هذا أدعى للإخلاص، أو أصلح للدولة وأكثر أمانًا لها؛ لأنَّ كلَّ نجاحٍ سيُحقَّق سيُنسب له ولجيشه لا لله عزَّ وجل، وسيكون المجد لعائلته وحكومته وليس للأمَّة وتاريخها.
إنَّ الناس تُعظِّم شأن الإسكندر الأكبر، أو چنكيز خان، أو رمسيس الثاني، وهي لا تعرف شيئًا عن دينهم، لأنَّهم ما كانوا يُحقِّقون أمجادهم بغية نصر الدين، أو إعزاز العقيدة؛ إنَّما هي أمجادٌ شخصيَّةٌ نُسِبَت إليهم.. كانوا يُقاتلون للمغنم، وللذكر، وليُرى مكانهم.. أمَّا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو خالد بن الوليد رضي الله عنه، أو ألب أرسلان، أو صلاح الدين الأيوبي، أو قطز، أو محمد الفاتح، فإنَّهم لا يُذْكَرون إلَّا ويُذَكر «الإسلام».. فأيُّ عظمةٍ أكبر من هذه؟! لقد صارت كلمة الله عالية عندما رفع هؤلاء سيوفهم وانطلقوا في ربوع الدنيا يُدافعون عن هذه العقيدة السامية، وهذا الدين العظيم، وأعلنوا ذلك للعالم أجمع، ففهمه القريب والبعيد، والصديق والعدو، والمعاصر والذي جاء من بعدهم بقرون..
هذا هو المجد..
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا..
كان الفاتح رحمه الله حريصًا على إظهار هذا المعنى في كلِّ حياته..
ها هو في عام 1453م، في بداية أيَّام حكمه، يُشاهد العَلَم العثماني يُرفرف فوق أحد أبواب القسطنطينية، فيعلم أنَّ عمليَّة الفتح قد نجحت، فيترجَّل عن حصانه، ويخرُّ ساجدًا لله حمدًا له على هذا النجاح العظيم[3].
ثم ها هو يسير بحصانه في الشارع المؤدِّي إلى كنيسة آيا صُوفيا، وعندما يصل إلى بابها يترجَّل ثانية، وينحني إلى الأرض ليأخذ حفنةً من التراب ينثرها فوق عمامته خضوعًا لله، وإظهارًا للتواضع له[4]!
هل هناك «إعلانٌ» أوضح من هذا؟!
إنَّه يُعلن للجميع، من المسلمين والبيزنطيِّين، ومن المعاصرين والمؤرِّخين على مدار العصور، أنَّ الذي حقَّق هذا النصر هو الله عز وجل وليس محمدًا الفاتح أو جيشه، وهذه -والله- أبلغ دعوة، وأعظم تعريفٍ بالإسلام.
ثم ها هو الفاتح في آخر حملاته العسكريَّة، في عام 1478م في ألبانيا، وبعد خمسٍ وعشرين سنة من الموقف الأوَّل، يقول عندما وصله نبأ فتح ليزهي Lezhe: «هذا نصرٌ أعطاه الله لي»[5]!
وبين هذين الموقفين عشرات ومئات المواقف من النوع نفسه...
ولكونه كان «مُعْلِنًا» لهذه الروح الإسلاميَّة فإنَّها انتقلت بالتبعيَّة لجيشه..
في فتح القسطنطينية لم يتوقَّف الجنود عن التكبير، وكان رجال الدين يتجوَّلون بين الصفوف يتلون الأدعية، ويُردِّدون الآيات القرآنيَّة، والأحاديث النبويَّة التي تحثُّ على الجهاد في سبيل الله[6].
وبعد خمسٍ وعشرين سنة من هذا الموقف كان الجنود يُردِّدون في حملة ألبانيا عام 1478م، وهم يُحاصرون قلعة شقودرة: «الله.. الله»، وكان هذا هو ترديدهم كذلك عند حصارهم لقلعة درشت Drisht في الحملة نفسها[7]..
وانظر إلى طريقة تعبير قادة الجيش عن النصر، فقد ذكر المؤرِّخ التركي كيڤامي، وهو معاصرٌ للفاتح، أنَّ الجنود فتحوا قلعة درشت ولم يكن الفاتح موجودًا فأرسلوا له رسالةً تُخبره بالنصر قالوا فيها: «قضى الله العليُّ العظيم أن تُؤخذ هذه القلعة»[8]!
وكان المؤرِّخون المعاصرون للفاتح أمثال عاشق زاده، وطورسون، وكيڤامي، وإدريس البدليسي يفقهون هذا النهج من محمد الفاتح، ويعرفون هدف الجيش، بل يعرفون أنَّ هذا هو هدف الدولة كلِّها، ولهذا جاءت كتاباتهم واضحة للغاية بهذا الشأن، وإذا أخذنا تعبيراتهم عن حملة الفاتح الأخيرة في ألبانيا عام 1478م كمثال وجدنا ما يُوَضِّح لنا هذا المعنى، فعاشق زاده لا يصف جيش الفاتح إلَّا بلفظ «الجيش الإسلامي»[9] وكذلك يفعل كيڤامي، حيث يقول دومًا: «الجيش الإسلامي، أو الجنود المسلمون»[10]، فليس الأمر خاصًّا -في فهمهم- بالعثمانيِّين أو الأتراك، إنَّما بالمسلمين، وها هو إدريس البدليسي يصف الحرب في ألبانيا بالحرب المقدَّسة[11]، أمَّا طورسون بك فيصف نصر الجيش العثماني في الحملة بقوله: «هذه هي الطريقة التي تحوَّلت بها هذه الأرض البكر إلى أرضٍ (إسلاميَّة)»[12]، فهو يُدرك أنَّ الأرض صارت «إسلاميَّة»، وليست عثمانيَّة..
ولم تكن هذه المشاعر الإسلامية الفيَّاضة في أرض القتال فقط، بل دفعته هذه الروح الإسلاميَّة إلى إحاطة نفسه بالعلماء الشرعيِّين، ولقد كانت ولايته بداية عهدٍ جديدٍ في الدولة العثمانيَّة؛ حيث أنفق الفاتح استثمارات كبرى تهدف إلى جذب العلماء من العالم الإسلامي إلى إمبراطوريَّته[13]، وكان الفاتح يستمتع بصحبة العلماء، ويحرص على تنظيم المحاورات الشرعيَّة بينهم أمامه[14]، وعندما بنى مسجده الشهير في إسطنبول أحاطه بثمانية مدارس دينيَّة فقهيَّة لتستوعب العلماء وطلبة العلم من كلِّ مكان[15]، ولقد لفت اهتمامُ الفاتح بالأمور الشرعيَّة نظر المؤرِّخين حتى قالت المؤرِّخة الإنجليزيَّة كارولين فينكل Caroline Finkel: «إنَّ التصميم الذي اختاره الفاتح لمـُجَمَّع المسجد والمدارس هو تصميمٌ مقصود، حيث جعل المسجد في الوسط محاطًا بالمدارس حوله ممَّا يُعطي الانطباع بسيطرة العلوم الشرعيَّة الدينيَّة على مسار الدولة»[16].
لقد كانت حياته إسلاميَّة بالدرجة الأولى..
وإنَّه من الجميل أن تطالع آراء العلماء المسلمين الذين تخصَّصوا في كتابة السير وتاريخ الرجال فيما كتبوه عن السلطان الفاتح، فإنَّهم لا يكتفون بالحديث عن قوَّة دولته، أو اتِّساع ملكه، إنَّما دومًا يلفتون النظر إلى إسلاميَّته، وحبِّه للشريعة، واهتمامه بالدين، فقد قال زين الدين الملطي -وهو معاصرٌ له- في وصفه: «وانتشر عدله في الآفاق، مع العقل والتديُّن، والمعرفة والفضل الغزير، والعلم، والكرم»[17]، وقال قطب الدين النهروالي: «أعظم الملوك اجتهادًا، وأقواهم فؤادًا، وأكثرهم توكُّلًا على الله واعتمادًا، وهو الذي أسَّس مُلْك بني عثمان، وقنَّن لهم قوانين صارت كالأطواق في أجياد الزمان، وله مناقب جميلة، ومزايا فاضلة جليلة، وآثار باقية في صفحات الليالي والأيَّام، ومآثر لا يمحوها تعاقب السنين والأعوام، وغزوات كسر بها أصلاب الصلبان والأصنام»[18]! أمَّا المؤرخ الشهير ابن العماد الحنبلي فقد أسهب في وصف محاسنه، وشرح فتوحاته وإنجازاته، حتى قال: «وقد أسَّس في إسطنبول للعلم أساسًا راسخًا لا يُخشى على شمسه الأفول، وبنى بها مدارس كالجنان لها ثمانية أبواب، سهلة الدخول، وقنَّن بها قوانين تُطابق المعقول والمنقول، فجزاه الله خيرًا عن الطلاب، ومنحه بها أجرًا، وأكبرَ ثواب... وأنَّه رحمه الله تعالى استجلب العلماء الكبار من أقصى الديار، وأنعم إليهم، وعطف بإحسانه إليهم، كمولانا علي القوشجي، والفاضل الطوسي، والعالم الكوراني، وغيرهم من علماء الإسلام، وفضلاء الأنام، فصارت إسطنبول بهم أمَّ الدنيا، ومعدن الفخار والعلياء، واجتمع فيها أهل الكمال من كلِّ فنٍّ، فعلماؤها إلى الآن (آخر القرن السابع عشر الميلادي) أعظم علماء الإسلام»[19]! وقال العالم الكبير الشوكاني: «وكان مائلًا إلى العلماء مقرِّبًا لهم، يخلطهم بنفسه ويأخذ عنهم في كلِّ علم، ويُحسن إليهم، ويستجلبهم من الأقطار النائية، ويُراسلهم، ويفرح إذا دخل مملكته واحدٌ منهم»[20]. أمَّا العَّلامة المصري الشهير الإمام السيوطي فقد وصفه بأنَّه «محيي الدين»[21]، وكان السيوطي معاصرًا للسلطان الفاتح، وشهادته مهمَّةٌ للغاية، ليس فقط لأنَّه من كبار علماء المسلمين، ولكن لكونه يعيش في دولة المماليك المنافِسة للسلطان الفاتح، فجاءت هذه الشهادة المجرَّدة كدليلٍ جليٍّ على وضوح نصرة الفاتح للدين، ومثل السيوطي نجد العلاَّمة السخاوي، وهو معاصرٌ كذلك للسلطان الفاتح، ومن أهل القاهرة، يقول في حقِّه: «وُصف بمزاحمة العلماء، ورغبته في لقائهم، وتعظيم من يَرِد عليه منهم»[22]، بل يؤكِّد السخاوي أنَّ السلطان الفاتح كان كثير المراسلة للمحيوي الكافياجي، وكثير الإهداء له[23]، والمحيوي الكافياجي من كبار علماء الشريعة القاطنين في القاهرة آنذاك.
هذا هو السلطان الفاتح رحمه الله!
لقد رأينا بجلاء كيف أنَّ علماء الإسلام المعاصرين له ينتبهون دومًا إلى دينه، وجهاده، وحبِّه للعلم والعلماء، فكان من الواضح أنَّ هذه الصفات كانت من أبرز صفاته، وكان من الواضح كذلك أنَّ هذه الصفات كانت ملازمةً له في كلِّ حياته؛ لأنَّ كلَّ هؤلاء العلماء كتبوا هذه الكلمات بعد وفاة الفاتح رحمه الله، فهم قد شهدوا حياته كاملة، ومن الجدير بالذكر أن نُشير إلى أنَّ كلَّ من ذكرناه من العلماء لم يكن يعيش في الدولة العثمانيَّة حتى يُتَّهم بالانحياز إلى السلطان الفاتح، بل على العكس كان معظمهم من أهل دولة المماليك المصريَّة، التي كانت على خلافٍ مع العثمانيِّين.
ولم يكن هذا الوضوح لإسلاميَّة الفاتح ظاهرًا للمسلمين فقط؛ بل رآه وأدركه زعماء النصارى في العالم أجمع، ولقد مرَّ بنا عند الحديث عن موت الفاتح رحمه الله ابتهاج العالم النصراني بوفاته، ولم تكن نظرة زعماء الغرب للفاتح نظرتهم لعدوٍّ «لأوروبا»، أو «إيطاليا»، بل كانوا ينظرون إليه كعدوٍّ «للنصرانية»، ولا يكون هذا إلَّا إذا كان واضح الإسلاميَّة، فهو لا يُريد «عثمنة»، أو «تتريك» أوروبا أو البلقان؛ إنَّما يُريد «أسلمتها»، وهذا هو الذي فهمه البابا وغيره من زعماء الغرب، فجاءت كلماتهم عند موت الفاتح شارحةً لهذا المعنى، ولقد ذكر المؤرِّخ الألماني بابينجر Babinger أنَّ البابا بيوس الثاني كان يَعُدُّ محمدًا الفاتح هو العدوُّ الرئيس «للمسيحية» في العالم[24]، وفي موضعٍ آخر عند وفاة الفاتح ذَكَر أنَّ محمدًا الفاتح هو العدوُّ الخالد للمسيحية[25]، وفي رسالة استيفين الثالث أمير البغدان إلى ملك المجر ماتياس في عام 1475م وصف الفاتح بأنَّه «عدوُّ المسيحية»[26]، وذكرت الباحثة الفنلنديَّة، والمتخصِّصة في تاريخ الكنيسة، كيرسي سالونيه Kirsi Salonen أنَّ محكمة الباباويَّة العليا Sacra Romana Rota، وهي أعلى سلطة دينيَّة في الڤاتيكان، أخذت عطلةً غير تقليديَّة يوم 4 يونيو 1481م؛ وذلك للاحتفال بموت محمد الفاتح بعد وصول الخبر إليهم! وعلَّلت الباحثة هذا الإجراء غير التقليدي بأنَّه احتفالٌ بموت العدوِّ الرئيس للنصرانية «The arch enemy of Christendom»[27]، وأبلغ وأعمق من كلِّ ما سبق ما ذكره القسُّ الإنجليزي كينيث كراج Kenneth Cragg، وهو يصف حال الإمبراطوريَّة العثمانيَّة عند وفاة الفاتح فيقول: «عند وفاة محمد الثاني كانت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة هي أعظم قوَّة عسكريَّة وفكريَّة على وجه الأرض، وكانت لها القيادة في الرياضيَّات، والفلك، ودراسات الفلاسفة اليونانيِّين. لقد كانت ديانة النبيِّ محمد (ﷺ) هي العقيدة المتغلِّبة، والقوَّة الدافعة في المعرفة والثقافة»[28]! فانظر كيف ربط القسُّ الإنجليزيُّ بين جهد محمد الفاتح ودين النبيِّ محمد ﷺ، وتدبَّر كيف أنَّه لم يُعلِّل هذا النجاح الباهر للسلطان الفاتح بعبقريَّته أو قوَّته؛ إنَّما أرجع ذلك إلى القوَّة الذاتيَّة لدين الإسلام، فأيُّ دعوةٍ أعظم من هذا؟! ولم يكن هذا الانطباع الذي جاء عند الزعماء والقساوسة إلَّا بسبب وضوح إسلاميَّة القائد العظيم محمد الفاتح.
من هذا المنطلق يمكن أن نفهم السرَّ وراء اختيار نوع الشبهات التي حاول الغربيون أن يتهموا بها الفاتح لتقليل قدره عند المسلمين وعند العالم بشكلٍ عامٍّ، فهي في معظمها شبهات تتعلق بالدين، وكأنهم يريدون محو هذه الصورة الإسلامية التي انطبعت بشكل تلقائي في ذهن كل مَنْ يقرأ سيرته وحياته رحمه الله، فاتهمه البعض مثلًا بشرب الخمر[29][30]، ومع أن الغرب يشرب الخمر دون حرج، وكل الملوك والأمراء الأوروبيين يعاقرون الخمر، لكن لأن هذا محرَّم في الإسلام فإن رمي الفاتح به سوف يقدح في إسلاميته، وبالتالي لا تُضاف انتصاراته وإنجازاته إلى الإسلام؛ بل إليه هو شخصيًّا أو للعثمانيين، وهذا أهون عندهم، لأنه محدود بفترة معينة بعكس الإسلام الباقي أبد الدهر. ومثل هذا يقال على اتهامه بقتل أخيه الذي لم يتجاوز عامين[31]، أو اتهامه بالوحشية والعنف[32]، بل اتهامه بالمثلية والشذوذ الجنسي[33][34]، وكلها اتهامات واهية لا ترقى إلى الحقيقة، ولا قريبًا منها، وتحمل الكثير من التناقض؛ لأن المصادر التي اتهمته هي نفسها المصادر التي ذكرت إسلاميته، وورعه، وحرصه على أحكام الشريعة، وتوقيره للعلماء، وكلها أمور لا تتناسق مع هذه الاتهامات البشعة.
لقد كان الفاتح رحمه الله حريصًا على «إعلان» إسلاميته في كل مراحل حياته، ولهذا أكثر من بناء المساجد في ربوع الدولة العثمانية، وفي كل مدينة يتم فتحها، وعلى سبيل المثال، فقد أحصت الدكتورة عائشة فرات Ayşe Furat، الأستاذة بجامعة إسطنبول، خمسة مساجد بناها الفاتح في ألبانيا وحدها، وذلك مع صعوبة عملية الفتح في ألبانيا كما مرَّ بنا، ولم تكن الأمور مستقرة هناك قط، ومع ذلك كان الفاتح يفعل ذلك بمجرد فتحه للمدينة أو للحصن، وهذه المساجد هي: مسجد قرية كوركا Korca، ومسجد قلعة كرويه Kruje، ومسجد قلعة شقودرة Shkodër، ومسجد مدينة كانينا Kanina، ومسجد قلعة الباسان Elbasan[35]، وما قلناه عن ألبانيا نقوله كذلك عن اليونان، والبوسنة، وصربيا، وغيرها من الولايات العثمانية، وذلك حتى يوضِّح للشعوب أن الجيش الفاتح جيش مسلم في الأساس وليس عثمانيًّا أو تركيًّا.
والكلام نفسه يقال عن الحديث عن القوانين التي وضعها رحمه الله، فكانت كلها منبثقة من الشريعة، وكان الفاتح يرجع إلى العلماء الشرعيين دومًا ليساعدوه على صياغة مادة القانون ليكون متوافقًا مع القرآن والسنة[36]، وقد فهم ذلك كل من قرأ قانون الفاتح، بل فهمه كذلك الكتَّاب الغربيون وغير المسلمين إذ علموا أن هذا التشريع هو تشريع إسلامي صِرف وليس مجرد قوانين ابتكرها الفاتح أو غيره من القانونيين المعاصرين له[37]. وفي هذا أبلغ دعوة للإسلام، ذلك الدين الشامل الذي يوفِّر قانونًا يحكم كل مناحي الحياة.
ثانيًا: الطموح الكبير:
كانت إسلامية الفاتح دافعة له على تحقيق أعظم الطموحات، وعدم تضييع الوقت في سفاسف الأمور، وكان من أعظم صفاته أنه كان واضح الهدف في كل تحركاته، وهذا ما حقَّق له النجاح والفضل؛ فبعض الناس لا يُدرك على وجه الحقيقة ما يُريده في حياته، وبالتالي فإنَّ أعماله تأتي متناقضة، وقد يهدم اليوم ما بناه بالأمس، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: 92]، وما ذلك إلَّا لغياب الهدف.
في عام 2002م وضع الأميركي إدوين لوك Edwin Locke والكندي جاري لاثام Gary Latham، وهما من كبار علماء النفس، نظريةً تتناول كيفيَّة وضع الأهداف (Goal setting theory)، وفيها توصَّلا إلى أنَّ وضوح الأهداف يُوجِّه الإنسان إلى الأعمال التي لها علاقة بهدفه، ويمنعه من تضييع عمره فيما لا يُفيد، وأنَّ الأهداف الصعبة تُؤدِّي إلى استخراج الطاقات الكامنة في كلِّ فرد، وأنَّ الأهداف الواضحة تُؤدِّي إلى المثابرة، وترفع من قدرة الإنسان على بذل جهودٍ غير عاديَّة، وتلفت نظره إلى إمكاناتٍ متاحةٍ لا يراها في العادة، وتدفعه إلى استخدام معارف وسياسات لها علاقة بالهدف، كل هذا بشرط أن يُخلص الإنسان في تحقيق هدفه، وأن يُكرِّس حياته له، وأن تكون لديه القدرة والمعرفة التي تُمكِّنه من تحقيق الهدف، فضلًا عن دوام المتابعة لخطوات تحقيقه[38].
إنَّ ما وصل إليه العالمان الكبيران في عام 2002م هو عين ما كان يفعله الفاتح رحمه الله في القرن الخامس عشر من الميلاد! لم يكن هذا الجهد الخارق الذي بذله الفاتح، ولا الطاقات الكبيرة التي أبرزها، ولا الإمكانات الرائعة التي اكتشفها في معاونيه، وجيشه، وشعبه، إلَّا لوضوح الهدف في عينه، وليس هذا فقط، ولكن كذلك لأهمية وعِظَم الهدف الذي كان من أجله يعمل..
كان فتح القسطنطينية أحد الأهداف الكبرى التي وضعها الفاتح نصب عينيه يوم تولَّى عرش الدولة العثمانيَّة، بل لعلَّه كان هدفه قبل أن يجلس على العرش.
وفتح القسطنطينية هدفٌ صعب.. لا شَكَّ في ذلك.. ولكنَّه ليس بالهدف المستحيل.. نعم لم ينجح المسلمون في تحقيق هذا الهدف على مدار ثمانية قرون كاملة، لكن من الناحية النظريَّة يُمكن لهذا الهدف أن يتحقَّق، شريطة تحقيق الضوابط التي ذكرها إدوين لوك وجاري لاثام في نظريَّتهما، وهو ما فعله الفاتح رحمه الله من أوَّل أيَّام ولايته.. وما أجمل أن يُعيد القارئ قراءة فتح القسطنطينية بعد معرفة هذه الضوابط، ليرى كيف استخرج الفاتح الطاقات الكامنة فيه وفي أفراد جيشه، وكيف ثابر على عمليَّة الفتح، وكيف بذل هو وجيشه جهدًا فوق العادة، وكيف انتبهوا إلى إمكانات متاحة لا تُرى في العادة، وكيف استخدموا معارف وسياسات لها علاقة مباشرة بالفتح، وكيف أخلصوا في هذه المهمَّة، وكيف تابعوها يومًا بيومٍ حتى نجحت في النهاية!
لم يكن فتح القسطنطينية هدفًا مستحيلًا، لكنَّه كان صعبًا للغاية، ولم يكن تحقيقه ممكنًا بالعاطفة فقط، وبمجرَّد الرغبة الحثيثة في تحقيق بشارة النبيِّ ﷺ، ولكنَّه كان يحتاج إلى جهودٍ متضافرةٍ ينبغي أن تتكاتف معًا لتحقيق الإنجاز.. هناك حاجةٌ إلى أفرادٍ عسكريِّين بإمكاناتٍ معيَّنة، وهناك حاجةٌ إلى سلاحٍ بمواصفاتٍ خاصَّة، وهناك حاجةٌ إلى طرقٍ يُمكن أن تستوعب المدافع الضخمة والجيوش الكبيرة، وهناك حاجةٌ إلى مخابراتٍ قويَّةٍ تنقل الأخبار أوَّلًا بأوَّل، وهناك حاجةٌ لعلاقاتٍ دبلوماسيَّةٍ قويَّةٍ مع أطرافٍ كثيرةٍ في العالم، وهناك قبل ذلك وبعده حاجةٌ لإعدادٍ معنويٍّ وروحيٍّ ودينيٍّ لهذه المجموعة التي ستقوم بهذا العمل الكبير، وفوق كلِّ ذلك هناك حاجةٌ لإعداد الشعب كلِّه لتحمُّل هذه الأعباء الكثيرة التي سيتحقَّق بها الهدف! إنَّه تكريسٌ كاملٌ لجهود الدولة والأفراد لتحقيق الهدف الكبير، ولم يكن كلُّ هذا ليتحقَّق لولا حسن التركيز على الهدف الواضح..
هكذا تحقَّق الهدف وفتحت القسطنطينية!
ولم تكن هذه هي نهاية المطاف في حياة الفاتح رحمه الله، ويُخطئ كثيرٌ من المؤرِّخين في التركيز على سرد قصَّة فتح القسطنطينية ثم إغفال بقيَّة حياة الفاتح بعد ذلك، وكأنَّ هدفه الأعظم قد تحقَّق فما عاد لحياته هدفٌ واضحٌ بعده، وهذا خلاف الحقيقة تمامًا؛ فهدف فتح القسطنطينية تحقَّق بعد عامين فقط من ولاية الفاتح، ولقد ظلَّ حاكمًا بعد هذا الفتح مدة ثمانٍ وعشرين سنةً كاملة، كانت كلُّها مليئةً بالأهداف الكبرى، والطموحات العظيمة..
كان من أهدافه الكبرى قمع جمهوريَّة البندقية العملاقة، التي تُهدِّد مصالح دولته في كلِّ مكان، وكان الهدف صعبًا، لكنَّه ليس مستحيلًا، فكَّرس حياته وحياة حكومته وشعبه لهذا الهدف، ووقف بقوَّة أمام هذه الجمهوريَّة القادرة، ويُمكن للقارئ أن يُراجع ما ذكرناه في الكتاب عن أملاك هذه الجمهوريَّة، وأسطولها، واقتصادها، وعلاقاتها، حتى يستوعب صعوبة الهدف الذي وضعه الفاتح لنفسه ولدولته. تطلَّب تحقيق الهدف حربًا طويلة الأمد. لم تستمر هذه الحرب شهرين كما حدث مع فتح القسطنطينية، ولكنَّها استمرَّت ستَّة عشر عامًا كاملة، من 1463 إلى 1479م، بذل فيها الفاتح جهودًا خارقة، واكتشف في نفسه، وقادته، وجيشه، وشعبه، طاقات كبيرة ما كانت تُدْرَك لولا وضوح الهدف وصعوبته، وراجِعوا انتصار نيجروبونتي عام 1470م، وراجِعوا حملات الجيش العثماني على إقليم الفريولي عام 1477م، ثم في عام 1478م، وراجِعوا عمليَّات بناء الأسطول العثماني على مدار السنين ونموُّه وتطوُّره، وراجِعوا الجهود الدبلوماسيَّة مع فلورنسا ونابولي، فضلًا عن البندقية.. راجِعوا كلَّ ذلك لتستوعبوا فهم النجاح العظيم الذي حقَّقه الفاتح عندما رضخت البندقية العملاقة أخيرًا لشروطه، ووقَّعت المعاهدة المذلَّة لها في عام 1479م التي حقَّقت للدولة العثمانيَّة مجدًا غير مسبوق، ووضعت أنف البنادقة في التراب..
هذا كلُّه وضوحٌ للهدف مع علمنا بصعوبته وخطورته..
كان من أهداف محمد الفاتح أن يجعل البحر الأسود بحيرةً عثمانيَّة..
هذا هدفٌ صعبٌ للغاية، فمساحة البحر كبيرة، وسواحله طويلة، فهي تزيد على أربعة الآف وأربعمائة كيلو متر[39]، وليست هذه هي المشكلة الرئيسة في تحقيق الهدف؛ إنَّما المشكلة الرئيسة هي تنازع عدَّة قوى كبرى على الملاحة في هذا البحر، فهناك جمهوريَّة چنوة الإيطاليَّة، وهناك مملكة طرابزون البيزنطيَّة، وهناك خانات القرم في الشمال، وأيضًا هناك مملكة چورچيا، وإمارة البغدان، فضلًا عن طموحات البندقية وإن لم تكن تمتلك في هذا الوقت شيئًا في هذه السواحل. إنَّ ما يُميِّز هذه القوى جميعًا هو امتلاكها لأساطيل بحريَّة متمكِّنة تُوفِّر لها حركةً حرَّةً في البحر الأسود، كما أنَّها تمتلك قلاعًا قويَّةً في مواضع كثيرة من الساحل تجعل اختراق المدن المحميَّة بهذه القلاع أمرًا صعبًا حقًّا.
إنَّ الهدف صعب، ولكنَّه مهمٌّ للغاية، فالبحر الأسود يُمثِّل تهديدًا مباشرًا لجانبٍ كبيرٍ من الدولة العثمانيَّة، وخاصَّةً لعاصمتها إسطنبول، كما أنَّ بقاءه مشتركًا بين عدَّة دولٍ سيجعل مسألة المرور من المضايق البحريَّة عند إسطنبول للعبور إلى البحر الأبيض المتوسط أمرًا خطرًا من الناحية الاستراتيجيَّة، ولن تأمن الدولة العثمانيَّة إلَّا بامتلاك هذا البحر بكامله!
يحتاج هذا الهدف أسطولًا قويًّا، وجيشًا كبيرًا، ومعرفةً بالجغرافيا، وقدرةً على التخطيط، وعلاقاتٍ دبلوماسيَّة، ومهاراتٍ متعددةً للقادة والجنود، وهذا كله يحتاج إلى وقتٍ وفكرٍ ومال، ولكن بالجهد والمثابرة يتحقَّق الهدف، وهذا ما فعله الفاتح رحمه الله..
كانت أولى خطوات تحقيق الهدف في عام 1461م عندما فُتحت مدينة أماسرا، وأُخذت من جمهورية چنوة، وبعدها توالت الخطوات، وسقطت القلاع والمدن، وامتلك العثمانيُّون إسفنديار، وطرابزون، وأرتڤين، وسواحل القرم، وأچارستان، وباطومي، وغيرها من مدن وممالك البحر الأسود، حتى صار البحر الأسود تقريبًا بحيرةً عثمانيَّةً في عام 1479م، ولم تبقَ فيه خارج السيطرة إلَّا مدينتان في إمارة البغدان في غرب البحر الأسود، وبعض المدن الصغيرة في سواحل چورچيا في شرق البحر الأسود..
لقد تحقَّق الهدف كلُّه تقريبًا، وما تبقَّى منه كان أمرًا يسيرًا استُكمل في زمان بايزيد الثاني ابن الفاتح.. كان الأمر يحتاج إلى طول نفسٍ ومثابرة؛ فالمسألة لم تُحسم إلَّا من خلال عملٍ استمرَّ ثمانية عشر عامًا متَّصلة، لكن في النهاية تحقَّق وبنجاحٍ كبير..
وما قلناه عن البحر الأسود نقوله عن بحر إيجة، والسيطرة عليه أصعب من السيطرة على البحر الأسود لكثرة الجزر فيه، كما أنَّ القوى المتصارعة عليه أكبر وأضخم من تلك المتصارعة على البحر الأسود، ويكفي أنَّ الجمهوريَّات البحريَّة الإيطاليَّة كلَّها تطمع في هذه المنطقة، وعلى رأسها البندقية بممتلكاتها الكثيرة فيه، وكذلك چنوة، وإمارة ناكسوس، فضلًا عن فرسان القديس يوحنا، ولقد بدأ الفاتح مبكرًا في التخطيط للسيطرة على هذا البحر، وذلك منذ عام 1453م عندما استطاع ضمَّ ميناء إنيز Enez من چنوة، واستمرَّ سعيه دون توقُّفٍ حتى صار في عام 1479م يُسيطر على معظم المنطقة الشماليَّة لبحر إيجة، ويأخذ الجزية من إمارة ناكسوس في جنوب البحر، وكذلك من جزيرة خيوس الواقعة تحت سيطرة چنوة، وقد مرَّت بنا في ثنايا الكتاب تفاصيل هذا الجهد الجبَّار..
كان عملًا صعبًا استمرَّ ستَّة وعشرين عامًا لكنَّه نجح في النهاية بشكلٍ كبير.
وكان الفاتح رحمه الله كلَّما حقَّق هدفًا صعبًا وضع غيره نصب عينيه، فكانت الدولة في شغلٍ شاغلٍ طوال أيَّام حكمه، وما أعظم الهدف الذي ختم به حياته، وهو هدف فتح روما، ليستكمل -كما كان يُريد- بشارة الرسول ﷺ، وكان هذا الهدف معلنًا للحكومة، والجيش، والشعب، وكان الجميع يتحدَّث عنه، ولقد مرَّ بنا أنَّ الجنود العثمانيِّين في حصار شقودرة الألبانيَّة عام 1474م كانوا يهتفون: روما.. روما.. كذلك عاشق زاده المؤرِّخ المعاصر للفاتح، كان يرى أنَّ نجاح الفاتح في تثبيت القدم في ألبانيا هو خطوةٌ لفتح إيطاليا، ولقد بدأ الفاتح فعلًا في خطواتٍ لتحقيق الهدف، وأنجز منه جانبًا كبيرًا بنزول قوَّاته بنجاحٍ في أوترانتو والسيطرة عليها، لولا أنَّ الأجل لم يمهله، فمات قبل أن يستكمل خطواته. يقول المؤرِّخ الإنجليزي الأميركي برنارد لويس Bernard Lewis: «نجحت قوَّةٌ تركيَّةٌ في حصار أوترانتو والسيطرة عليها، وكان الأتراك جاهزين لعدَّة حملاتٍ لفتح إيطاليا، لولا موت السلطان محمد الثاني في عام 1481م»[40].
هذه بعض أهداف محمد الفاتح رحمه الله، وليست كلها، وهذا التنوُّع الكبير في الأهداف، وعلو قيمتها، وصعوبة تنفيذها، يكشف بوضوح عن المعدن النفيس لهذا البطل الجليل، فما أروعه من مثال!.
ثالثًا: الاستمراريَّة والجهد المتواصل:
تنبثق من النقطة السابقة -نقطة وضوح الهدف وصعوبته في حياة الفاتح- نقطةٌ أخرى مهمَّة ملاحَظَة في كلِّ حياته رحمه الله، وهي نقطة حفاظه على استمراريَّة العمل بنشاطٍ في كلِّ فترات حياته، وعدم وجود فترات راحة طويلة في هذه الحياة..
إنَّ البقاء «نشيطًا» ثلاثين سنةً كاملةً دون توقُّفٍ أمرٌ صعبٌ حقًّا!
سَأَلَ عَلْقَمَةُ رَحِمَه اللهُ عَائِشَةَ أمَّ المؤمنين ل: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، يَخْتَصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: «لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُطِيقُ؟»[41].
والمقصود من كلمة «ديمة» هو العمل الدائم المستمر غير المنقطع، وترى عَائِشَةُ ل أنَّ استمراريَّة العمل بالطاقة نفسها والجهد أمرٌ صعب لا يطيقه عامَّة الناس، ولهذا خفَّف رَسُولُ اللهِ ﷺ على أمَّته، فقال -كما روت عَائِشَةُ ل- عندما سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ»[42].. فليس الأهمُّ هو الكثرة؛ إنَّما -بنصِّ الحديث- الديمومة..
وكلمة «ديمة» هذه تشرح حياة الفاتح رحمه الله!
بل كان العمل في حياة الفاتح «كثيرًا دائمًا»، وليس «قليلًا دائمًا»، وهذا لا يُحقِّقه إلَّا قليلٌ من البشر، وصدق رَسُولُ اللهِ ﷺ إذ يقول فيما رواه عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ ب: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»[43].
ولنأخذ الجانب الأعظم في حياة الفاتح، وهو جانب الجهاد في سبيل الله، كمثالٍ لتوضيح هذه الملاحظة. إنَّنا نرى في حياة كثيرٍ من القادة والزعماء فترة نشاطٍ معيَّنة يُحقِّق فيها بعض الإنجازات، ثم نجد بعد ذلك هدوءًا في حياته، وغيابًا للأحداث الكبرى، بمعنى أنَّ فترات النشاط في حياة القادة يُمكن تحديدها بشكلٍ واضح، ويُمكن أن تكون هذه الفترات في أوَّل أيَّام حكمه، أو في نهايتها، وأحيانًا تكون هنا وهناك بصورةٍ متقطعة، أمَّا أن يحتار المؤرِّخ في تحديد فترة النشاط في حياة القائد أو الزعيم فهذا أمرٌ غير متكرر كثيرًا.
وبعد قراءتنا لقصَّة الفاتح، هل يُمكن أن نُحدِّد فترة «النشاط» في جانب الجهاد في حياته؟!
إنَّ هذا أمرٌ مستحيل؛ فالنشاط الجهادي يشمل حياته كلَّها بلا انقطاعٍ ولا فتور!
اختلف المؤرِّخون في عدد الحملات الهمايونيَّة؛ أي في عدد الحملات التي خرج فيها السلطان محمد الفاتح بنفسه، فذكر أوزتونا أنَّها خمسٌ وعشرون حملةً[44]، وذكر آخرون أنَّها ثماني عشرة فقط[45]، ويرجع السبب في الاختلاف إلى عدم اكتمال بعض الحملات فأحصاها بعضهم، وأهملها آخرون، أو بسبب تحرُّك حملةٍ واحدةٍ إلى أكثر من مكان فتُحْسَب عند بعضهم حملةً واحدة، ويحصيها آخرون أكثر من واحدة، وقد قمتُ بعمليَّة إحصاءٍ لهذه الحملات فوجدتُها أربعًا وعشرين حملة، بالإضافة إلى الحملة الخامسة والعشرين، التي لم تكتمل لوفاته في أولها، وهذه الحملات موزَّعةٌ على الثلاثين سنةً التي حكمها الفاتح بشكلٍ متوازنٍ جدًّا، وهذا يعني أنَّ الفاتح رحمه الله كان يخرج بنفسه على رأس الجيش كلَّ خمسة عشر شهرًا، فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الحملة الواحدة كانت تأخذ عدَّة شهورٍ، لتباعد المسافات، ووعورة الأرض، وكثرة العوائق الجغرافيَّة، ناهيك عن المطاولة في الحصار عند القلاع والمدن، إذا أخذنا كلَّ ذلك في الاعتبار علمنا أنَّه رحمه الله قضى حياته كلَّها في الجهاد..
وأمَّا بخصوص الديمومة التي نتحدَّث عنها فإنَّه يكفي أن ننظر إلى جدول الحملات لنرى التواريخ التي تمَّت فيها هذه الحملات لنُدرك ديمومة جهاده رحمه الله، فالحملة الأولى التي خرج فيها كانت في عام ولايته نفسه؛ أي في عام 1451م، والحملة الأخيرة كانت في عام 1478م؛ أي قبل وفاته بثلاث سنوات فقط، آخذين في الاعتبار أنَّه خرج كذلك في عام وفاته نفسه -أي في عام 1481م- في حملةٍ عسكريَّةٍ إلى وجهةٍ غير معلومة، ولكنَّها لم تتم لوفاته المفاجئة.
وإذا نظرنا إلى الجدول أيضًا وجدنا أنَّه لا تكاد تمرُّ سنتان إلَّا ونرى حملة، بمعنى أنَّه ليس هناك تركيزٌ للحملات في السنوات الأولى مثلًا، أو في الأخيرة، أو في غيرها؛ إنَّما هناك توزيعٌ متناسقٌ جدًّا، وهذا لا يعني إلَّا شيئًا واحدًا، وهو «ديمومة الجهاد»، فلا يكاد ينتهي من حملةٍ وتوابعها حتى يقوم بالتجهيز لحملةٍ أخرى مباشرة، وكان هذا واضحًا لنا في استعراض تفاصيل قصَّته كما مرَّ بنا.
وينبغي لفت النظر أنَّ جدول الحملات الذي نتحدَّث عنه لا يذكر إلَّا الحملات الهمايونيَّة التي خرج فيها السلطان بنفسه، أمَّا معارك الدولة العثمانيَّة التي أرسل فيها الفاتح قادةً آخرين لقيادة الجيوش فهي معارك كثيرة، فإذا أخذنا هذه المعارك في الاعتبار، وأدركنا أنَّ الفاتح كان يُشارك في الإعداد، ويُتابع الخطوات، ويتفاعل مع النتائج، علمنا أنَّ «كلَّ» لحظةٍ من لحظات حياته كانت مشغولةً بالجهاد، أوبالإعداد له، أو بمتابعة نتائجه..
هذه هي الديمومة التي نتحدَّث عنها!..
وإذا كنَّا قد فصَّلنا في الجانب الجهادي في حياة الفاتح، فإنَّ هذا لا يعني أنَّه الجانب الوحيد من جوانب حياته؛ بل إنَّ هناك جوانب أخرى كثيرة في المجالات السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والعلميَّة، والاجتماعيَّة، وغيرها، ولكن من المهمِّ أن نُشير هنا إلى أنَّ «الديمومة» التي نتحدَّث عنها في جانب الجهاد كانت موجودةً كذلك في بقيَّة الجوانب، وما توقَّفت قط حركة الإعمار، والبناء، ووضع القوانين، وتسيير الدولة بشكلٍ سلسٍ ومتوازن، وذلك من أوَّل أيَّام حكمه وإلى آخر أيَّام حياته..
ومن الجميل أن نعلم أنَّ استمراريَّة العمل الجادِّ في حياة الفاتح وديمومتها لم تكن تتأثَّر بالعوارض الكثيرة التي يُمكن أن تقف عائقًا أمام هذا الكدِّ المتواصل عند بعض الناس، وما أكثر العوائق التي يُمكن أن تُحْدِث هذا التوقُّف، لكنَّها لم تكن تفعل ذلك مع الفاتح الكبير..
من هذه العوائق مثلًا المرض، وكان من المعروف أنَّ السلطان محمدًا الفاتح يُعاني من النقرس، وأنَّه كان يُسبِّب له آلامًا مبرحةً في قدمه[46]، وهو ابتلاءٌ شديدٌ لرجلٍ يحتاج إلى ركوب الخيل، والسير لمسافاتٍ طويلة، ومقارعة الجيوش بالسيوف، والبقاء لشهور خارج بيته أو عاصمته، ومع ذلك فإنَّ هذا لم يُوقف جهاده، ولقد نقل المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون رسائل سفير ميلانو لرئيس الدوقيَّة بخصوص حملة الفاتح على البوسنة في عام 1464م، وذكر فيها أنَّ الفاتح يُعاني من اعتلالٍ كبيرٍ في صحَّته[47]، فهذا يعني أنَّ المرض مبكِّرٌ جدًّا في حياة الفاتح، فعمره في هذه الحملة كان اثنين وثلاثين عامًا، وقد ظلَّ مريضًا إلى آخر عمره بهذا الداء، ومرَّ بنا في الكتاب في أكثر من موضع عدم قدرته على الحركة بسبب الآلام الشديدة، فهذه سبعة عشر عامًا من الإعاقة، ومع ذلك فهي لم تُؤثِّر في «ديمومة» جهاده رحمه الله.
ومن عوائق الديمومة أيضًا تقدُّم السنِّ، ومع أنَّ الفاتح مات صغيرًا نسبيًّا -أي دون الخمسين من عمره- فمن المؤكَّد أنَّ جهد الشاب في العشرينيَّات من عمره ليس كجهد الرجل المتجاوز الأربعين، ولقد وجدتُ مؤلَّفاتٍ كثيرةً تتحدَّث عن صحَّة الرجال بعد عمر الأربعين، وذلك لأنَّه من الثابت أنَّ هناك تأثُّرًا ملموسًا في الوظائف العضويَّة والنفسيَّة بعد هذه السنِّ[48]، فكيف كان حال الفاتح في ديمومة جهاده بعد هذه السنِّ؟! إذا نظرنا إلى جدول الحملات الهمايونيَّة وجدنا أنَّه قام بعد هذا العمر بأربع حملاتٍ كبرى، لعلَّها أكبر حملاته قاطبةً بعد حملة القسطنطينية، فكانت أولاها ضدَّ أوزون حسن في صحراء أوتلق بلي عام 1473م، وكانت الثانية ضدَّ استيفين الثالث أمير البغدان في عام 1476م، وكانت الثالثة ضدَّ ماتياس ملك المجر في العام نفسه؛ أي في 1476م، وكانت الرابعة حملةً طويلةً في ألبانيا عام 1478م فتح فيها مدينة كرويه، وعدَّة مدنٍ أخرى، وحاصر شقودرة -كما مرَّ بنا- بل سنجد حملةً خامسةً أخيرة، وهي التي لم تكتمل بسبب وفاته عام 1481م. كانت هذه الحملات من أشقِّ حملاته، وأبعدها عن إسطنبول، ومن أطول حملاته زمنًا، ومن أشدِّها عنفًا، ومن أكثرها جهدًا.. يفعل كلَّ ذلك وهو السلطان الذي لو كلَّف غيره بالخروج ما لامه أحد.
ومن عوائق الديمومة أيضًا التعلُّق بالأسرة؛ أي بالزوجات والأولاد وحياة الاستقرار، وهذا ليس أمرًا غريبًا، بل لاحظه بعض الصحابة على أنفسهم، وذلك كما في حديث حنظلة رضي الله عنه عندما ظنَّ في نفسه النِّفاق، وكان السبب في ذلك انشغاله بالأسرة. قال حَنْظَلَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً». ثَلَاثَ مَرَّاتٍ[49].
ولاحِظْ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ هنا يتحدَّث عن صعوبة «الديمومة» على الروح الإيمانيَّة العالية نفسها التي يكون عليها الصحابة في مجالس العلم والذكر، وسبب الصعوبة هو الإعاقة بالأسرة، وهي إعاقةٌ طبيعيَّةٌ فطريَّة لأنَّ كلَّ الناس يتعلَّقون بزوجاتهم وأولادهم..
أين هذا في حياة الفاتح؟!
يذكر المؤرِّخون سبع زيجات أو ثمانيًا للسلطان الفاتح، وأربعة من الأبناء أو خمسة!
بدأ الفاتح رحمه الله الزواج مبكرًا في حياته؛ فقد تزوَّج للمرَّة الأولى وهو في الرابعة عشرة من عمره؛ أي في عام 1446م، جلبهار خاتون Gülbahar Hatun[50]، ويُرجَّح أنَّها من أصولٍ ألبانيَّة[51]، وقد أنجبت له ولدًا وبنتًا؛ الأمير بايزيد، الذي صار سلطانًا بعد وفاة الفاتح، وجوهر خان خاتون[52][53]، التي تزوَّجت لاحقًا الأمير ميرزا محمَّد ابن السلطان أوزون حسن كما مرَّ بنا في ثنايا قصَّة الفاتح.
وفي عام 1449م، وقبل توليته العرش بعامين، تزوَّج الثانية والثالثة في وقتٍ متقارب، وكان زواجًا سياسيًّا يهدف إلى تدعيم العلاقات مع الإمارات التركيَّة في الأناضول؛ حيث تزوَّج كلشاه خاتون Gülşah Hatun، بنت أمير قرمان إبراهيم بك، التي أنجبت له ولدًا هو الأمير مصطفى[54]، وكذلك تزوَّج ست شاه مكرمة خاتون Sitti Şah Hatun (Mükerreme)، وهي بنت أمير ذي القادر سليمان بك، ولم ينتج عن هذا الزواج أولاد[55].
ثم ذكرت المصادر ثلاثًا أو أربعَ زيجات أخرى بعد تولِّي الفاتح للعرش، ويبدو أنَّها -إن وُجدت- كانت زيجات قصيرة؛ إذ لا تتوفَّر معلوماتٌ كافيةٌ عنها، وثلاثٌ من هذه الزيجات من بنات العائلات البيزنطيَّة، وهن هيلانة خاتون Helena Hatun بنت ديمتريوس حاكم المورة، وأنَّا خاتون Anna Hatun بنت ديڤيد إمبراطور طرابزون، وأليكسياس خاتون Alexias Hatun وهي من أميرات بيزنطة[56]، كما تذكر بعض المصادر زواجًا آخر من هاتيس Hatice بنت الصدر الأعظم زاجانوس باشا، ولم يستمر هذا الزواج طويلًا؛ إذ تمَّ بعده الطلاق[57]، والواقع أنَّني أميل إلى أنَّ هناك خلطًا عند بعض المؤرِّخين بخصوص الثلاث زيجات البيزنطيَّة، وأنَّها في الحقيقة لم تكن زيجات، ولم نسمع عن طلاقٍ في حياة الفاتح باستثناء طلاقه من بنت زاجانوس باشا..
وفي النهاية تزوَّج الفاتح الرابعة بعد الثلاث الأوليات، وكان ذلك في عام 1458م، وكان هذا الزواج من چيچيك خاتون Çiçek Hatun، وهي من عائلةٍ تركيَّة، وأنجبت له ابنه الأصغر چم Cem أو Jem[58].
وتذكر بعض المصادر ابنًا خامسًا للفاتح يُدعى قورقود Kurkod[59]، ولكن أعتقد أنَّ الفاتح ليس له أولادٌ بهذا الاسم؛ إنَّما قورقود هو حفيده من بايزيد[60]، ولعلَّ من هنا جاء الاشتباه في كونه ابن الفاتح.
هذه هي عائلة الفاتح رحمه الله..
أربع زوجات وأربعة أبناء..
فهل شُغِل بأسرته الكبيرة وقَطَعَت عنه ديمومة جهاده؟!
إنَّ هذا في الواقع لم يحدث!
إنَّ سيرة الفاتح تكاد تكون خالية من المشكلات التي اعتدنا أن نراها في القصور التي تجمع عدَّة نساء، وتكاد تكون خالية من الأحداث التي نرى الرجل فيها منغمسًا في همومٍ داخليَّة، أو مُتَع مُلْهِية. في الواقع لقد حدث أمرٌ عجيب! لقد غيَّر الفاتح سياسة تعامل أجداده في مسألة النساء إلى طريقةٍ أخرى لم تكن مألوفةً عند العثمانيِّين! كان العثمانيُّون قبل زمن الفاتح معتادين على الحياة مع زوجاتهم بشكلٍ دائم، بحيث إنَّهم يصطحبونهنَّ في كلِّ انتقالاتهم، بما في ذلك الحملات العسكريَّة، والمهمَّات الخطرة، فأتى الفاتح وفعل نقيض ذلك تمامًا؛ إذ نقل حريم القصر جميعًا إلى قصرٍ في وسط مدينة إسطنبول عُرِفَ لاحقًا بالقصر القديم، بينما بنى قصرًا آخر للحكم هو قصر توب كابي، وهو الذي كان مقرًّا له ولاجتماعات الحكومة[61]، وإنَّما فعل ذلك لكي لا يكون منشغلًا بأمور أسرته عن إدارة شئون الدولة والحرب، وفي الوقت ذاته فإنَّ هذا يُوفِّر حمايةً للمعلومات المهمَّة التي تُتداول في القصر الحاكم، التي يُمكن أن تنتقل بطريقةٍ عفويَّةٍ من النساء أو جواريهنَّ إلى مَنْ يُمكن أن يُمثِّل خطرًا على الإمبراطوريَّة.
لا شَكَّ أنَّ مثل هذا الإجراء غير المعتاد، وهو الانعزال الفعلي بهذه الصورة عن أسرته، هو أمرٌ له سلبيَّاته وإيجابيَّاته، وقد قدَّر الفاتح أنَّ منافعه أكبر، ولذلك اختاره كطريقة حياة، وسوف نُناقش هذه المسألة الأسريَّة لاحقًا إن شاء الله، والشاهد هنا هو رغبة الفاتح الحثيثة في «التركيز» على ديمومة عمله الجاد في ميدان السياسة والحرب، وفيها يبرز الجانب الصارم في شخصيَّة السلطان.
وليس هذا فقط، بل إنَّنا رأينا في أحداث عام 1474م أنَّ الفاتح رحمه الله يُكمل العمل، ويستمرُّ في إدارة الأمور، و«يُداوم» على الجهاد والنضال، على الرغم من مصيبة فَقْدِ ابنه الأوسط مصطفى، الذي مات فجأةً وهو في الثالثة والعشرين من عمره! إنَّها مصيبةٌ تقصم ظهور رجالٍ كثيرين، ولكن الفاتح حَمِد اللهَ واسترجع، وأكمل مسيرته!
هل لم يحزن الفاتح على فقد ابنه؟!
الإجابة أنَّه حزن كثيرًا وطويلًا، ولكن هذا الحزن لم يكن عائقًا له عن استكمال مسيرة العمل. ليست هذه قسوة قلب؛ إنَّما تقدير مسئوليَّة، وفهم واقع، ولن يُدرك ذلك إلَّا قلائلُ من البشر.
لم تكن الأسرة، أو النساء، أو الأولاد عائقًا إِذَنْ عن ديمومة جهاد الفاتح رحمه الله.
بل لم تكن الملذَّات بشكلٍ عامٍّ تشغل ذهن الفاتح؛ فقد ذكر السخاوي المعاصر له، أنَّه كان منخفضًا عن أبيه في اللذات[62]، مع العلم أنَّ أباه مراد الثاني، كان مُقِلًّا جدًّا في اللذات، وكان يُحبُّ أن يعيش حياة الجنود البسطاء، ولا يُشارك في متع الملوك[63]، فإذا كان مراد الثاني كذلك، فكيف كان حال ابنه الفاتح وهو أقلُّ منه استمتاعًا بملذات الدنيا كما شَهِدَ بذلك معاصره الإمام السخاوي؟!
وهناك عاملٌ مهمٌّ آخر غير العوامل التي ذكرناها يُمكن أن يحول دون ديمومة الجهاد والعمل المتواصل، وهو الإحباط! فالمحبط لا يقوى على العمل، بل لا يرغب فيه أصلًا، وكان رَسُولُ اللهِ ﷺ يستعيذ بالله من العجز والكسل[64]، فهذه أبرز صفات المحبَطين، والإحباط يأتي من عوامل كثيرة؛ منها مثلًا تعرُّض المرء للخسارة، والواقع أنَّ جيوش الفاتح تعرَّضت للخسارة كثيرًا في معاركها المتتالية، وكانت واحدة من هذه الخسائر في وجود الفاتح شخصيًّا، وهي خسارة معركة بلجراد عام 1456م، وسنأتي إلى تفصيل هذه الخسائر لاحقًا بإذن الله، لكنَّ الشاهد هنا أنَّ الخسائر المتكرِّرة للفاتح في معارك متعدِّدة لم تُضعف قوَّته، ولم تدفعه إلى العجز والكسل، ولم تُؤدِّ إلى إحباطه، ولم تُوقِف ديمومة جهاده؛ بل كان يستخدم هذه الخسارة كقوَّةٍ دافعةٍ له ولجيشه للوقوف من جديد، وتُشجِّعه هذه الخسارة على التعويض والفوز، فكان يُتْبِع الخسارة بنصرٍ يمحو بها الآثار النفسيَّة التي تحدث عند الناس من تكرار الأزمات..
وقد يحدث الإحباط نتيجة تعرُّض المرء لخسائر لا دخل له فيها بشكلٍ مباشر، وذلك مثل ما ينجم عن الكوارث الطبيعيَّة الكبرى، التي تُفْقِد الإنسان كثيرًا من ممتلكاته، وتُوقِف كثيرًا من مصالحه، فيشعر بالإحباط نتيجة عجزه عن الوقوف أمام الكارثة الكبرى، لكن هذا الإحباط لم يحدث كذلك في حياة الفاتح مع تعرُّضه لكوارث طبيعيَّة كبيرة، كان منها على سبيل المثال طاعونٌ شديدٌ ضرب عاصمته إسطنبول عام 1467م، والطاعون (Plague) كان معروفًا في ذلك الوقت بالموت الأسود Black death، والطاعون كان كارثةً محبطةً بكلِّ المقاييس، خاصَّةً أنَّ أوروبا لم تنسَ بعد طاعونها الأكبر الذي ضربها فيما بين عامي 1347 و1351م، الذي أفقدها أكثر من ثلث سكَّان القارَّة! أي ما يزيد على خمسة وسبعين مليون إنسان[65]! الذي فقدت فيه إنجلترا على سبيل المثال ما يقرب من خمسين بالمائة من سكانها؛ أي نصف الشعب[66]! كان هذا الطاعون الشديد منذ قرنٍ من الزمان تقريبًا، وكان السماع بتكراره يعني الإحباط الكامل للشعب والقيادة، فإنَّ الحلول العمليَّة والحقيقيَّة لعلاجه لم تكن معروفة في ذلك الزمن، ومِنْ ثَمَّ يقف المرء عاجزًا أمام هذه الأزمة الرهيبة.
ضرب الطاعون الأسود إسطنبول في صيف 1467م، وضرب عدَّة مدنٍ حولها في شرق تراقيا، ليحصد -كما تقول إحدى الروايات- عشرات الآلاف من السكان، وليس الآلاف فقط[67]، ولقد ذكر المؤرِّخ المعاصر كريتوبولوس أنَّ الطاعون كان يقتل في كلِّ يومٍ ستمائة في إسطنبول وحدها[68]! وحسب دراسة المؤرِّخ الأميركي هيث لوري Heath Lowry، وهو من المتخصِّصين المشهورين في تاريخ الدولة العثمانيَّة، فإنَّ الطاعون قَتَل من أهل إسطنبول وحدها رقمًا يتراوح بين خمسين ألف مواطن وخمسة وسبعين ألفًا[69]! وإن كان بعضهم يهبط بالرقم إلى ما بين خمسة عشر ألف وفاة وعشرين ألفًا[70]! والواقع أنَّ الكارثة كبيرة في كل الأحوال، ويُمكن أن تُسبِّب الإحباط لأيِّ قائدٍ أو شعب، خاصَّةً مع استرجاع التاريخ القريب لأوروبا، الذي يحمل أرقامًا من القتلى للطاعون لا يتخيَّلها عقل!
لم تُحْبِط هذه الكارثة السلطان محمد الفاتح رحمه الله، بل تعامل مع الأمر بواقعيَّة، نجده لم يرجع إلى إسطنبول من حملته في ألبانيا، إنَّما عاد إلى المناطق الشماليَّة في الإمبراطوريَّة (في بلغاريا) لكي يكون بعيدًا هو وجيشه عن المرض فلا تنتقل العدوى إليهم، ومارس من هناك إدارة الدولة، وكيف يُمكن أن يُقلِّص من انتشار المرض، وكان من هذه الوسائل استخدام الدواء المتعارف عليه في هذه الآونة، وكان الفاتح قد وفَّر هذا الدواء قبل الكارثة بخمس سنوات، حين فتح جزيرة ليسبوس اليونانيَّة عام 1462م؛ حيث أكَّد المؤرخ هيث لوري أنَّ فتح الجزيرة كان بسبب توفُّر النبات الذي يُستخلص منه علاج الطاعون، واسمه تيرا ليمنيا Terra Lemnia[71]، فهذا يعني أنَّ الفاتح كان مستعدًّا لمواجهة مثل هذه الكارثة قبل حدوثها بخمس سنوات، وهذا مما قلَّل من فرصة حدوث الإحباط، لأنَّه أدَّى ما عليه في هذه الجزئيَّة، وليس في الإمكان أفضل ممَّا كان، كما أنَّه قام بالعمل الشرعي وفق السنة النبويَّة، وهو عدم دخول المدينة التي بها الطاعون، وعدم السماح لمن بها أن يخرج منها، وهذا أدَّى إلى تقليص الأزمة قدر الإمكان.
يبقى أن نُشير إلى أنَّ الفاتح بعد هذه الكارثة، وبعد أن فقدت العاصمة أكثر من ثلث أهلها في كارثة الطاعون لم يُحْبَط، بل أكمل العمل في إعادة إعمار المدينة بعد انتهاء الطاعون، فبعد أن تقلَّص عدد سكان المدينة إلى أقل من ثلاثين ألف مواطن[72] نجد أنَّ تعداد سكان إسطنبول في عام 1477م كان يتراوح بين ثمانين ألف مواطن ومائة ألف[73]، فهذا يعني أنَّ المدينة في خلال عشر سنوات كانت قد استعادت عافيتها تمامًا، ولا يأتي هذا إلَّا من جهدٍ متواصل، و«ديمومة» عملٍ جادٍّ لا يتوقَّف.
لم تؤدِّ إِذَنْ كلُّ العوامل التي يُمكن أن تُقلِّل من حماسة إنسانٍ إلى الحدِّ من جهد الفاتح المتواصل! إنَّه عملٌ دءوبٌ لا بُدَّ أن يلفت النظر!
إنَّ هذا أمرٌ يحتاج إلى دراسةٍ متعمِّقةٍ لفهم طبيعة هذه الروح التي لا تعرف الكسل.. إنَّ مَرَدَّ ذلك لا شَكَّ يعود إلى أمورٍ كثيرةٍ متفاعلة، لكنِّي في هذا العجالة يُمكن أن أُشير إلى ثلاثة عوامل حافظت على هذه «الديمومة» في حياة الفاتح النموذج..
أمَّا العامل الأوَّل فهو قوَّة العقيدة، وعمق الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنَّ المؤمن الواعي يُدرك أنَّ الله يُحاسب على العمل وليس على النتيجة، ومِنْ ثَمَّ فالساعي إلى العلاج مأجورٌ ولو لم يتم الشفاء، والمقاتل الآخذ بالأسباب الصحيحة للنصر مأجورٌ ولو لم يتحقَّق له الفوز، فهذا كان يدفعه إلى العمل بشكلٍ «دائم»، لأنَّه مأجورٌ في كلِّ الأحوال. قال تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى: 36].
وأمَّا العامل الثاني فهو إحاطة الفاتح نفسه بالعلماء؛ فإنَّ همَّة الفرد تفتر أحيانًا فيحتاج إلى تذكير. قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، ومَن أفضل مِنَ العلماء للقيام بهذا الدور؟ ومن المؤكَّد أنَّ الفاتح -كإنسان- كان يتعرَّض أحيانًا للفتور النسبي، ولكن وجود العلماء كان يجعل هذا الفتور قليلًا، أو كانوا يدفعونه إلى استغلال الفتور على نحوٍ شرعي، أو كما يقولون: «استراحة المحارب»! بمعنى أنَّه يستغلُّ لحظات الفتور استغلالًا إيجابيًّا يدفعه إلى مزيد عملٍ في الفترات اللاحقة، وهو ما يُمكن أن نفهمه من حديث رَسُولِ اللهِ ﷺ الذي رواه عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو ب، وقَالَ فيه: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ»[74]. فمِنَ الحديث نفهم أنَّ الفتور يحدث لكلِّ الناس، ولكلِّ الأعمال، وأنَّ النشاط (الشِّرَّة) من الطبيعي أن يتحوَّل إلى فتورٍ في إحدى اللحظات، ولكن ينبغي أن يكون هذا الفتور داخل إطار السُّنَّة النبويَّة، وهذا له حدودٌ يعرفها العلماء في كلِّ موقف، ولهذا إذا كان العبد مصاحبًا للعلماء، وملازمًا لهم، فإنَّهم يدلُّونه على صواب السُّنَّة في كلِّ أحواله، وهذا ما يضمن له «ديمومة» العمل الصالح.
أمَّا العامل الثالث والأخير في هذا الصدد فهو ما ذكرناه في النقطة السابقة من «طموحه الكبير»، فهذا الطموح في حدِّ ذاته يدفعه إلى ديمومة العمل؛ لأنَّه مهما حقَّق من نجاحٍ فإنَّه يرنو إلى ما هو أعلى منه، وإذا حدث له فشلٌ قام من كبوته بسرعةٍ ليُحقِّق الطموح الذي يحلم به، ولقد وَصَف محلِّلُ التاريخ العسكري الأميركي إدوارد إريكسون Edward Erickson السلطانَ الفاتح بأنَّه «طموحٌ فوق اللازم» «Over ambitious»[75] معلِّلًا ذلك بأنَّه لم يكن يلتفت إلى الحدود القصوى لجيشه وإمكاناته، والواقع أنَّني أختلف مع المحلِّل القدير في ذلك؛ لأنَّ النتائج أثبتت أنَّ طموح الفاتح -مع كونه كبيرًا- إلَّا أنَّه كان يتحقَّق، ومعنى تحقُّقه أنَّه غير مستحيل، وأنَّه واقعي، وأنَّ الفاتح كان يُدرك عن وعيٍ إمكانات نفسه، وجيشه، ودولته، ويُحسن تقدير قوَّة الأعداء وإمكاناتهم، ومِنْ ثَمَّ يأخذ الخطوات المناسبة، فلم يكن الطموح إِذَنْ «فوق اللازم»، إنَّما كان طموحًا عظيمًا وجليلًا، ومع ذلك فهو في حدود الممكن.
لقد وصفت المؤرِّخة الأميركيَّة ليندا دارلينج Linda Darling والأستاذة بجامعة أريزونا، محمَّدًا الفاتح بأنَّه كان متحمِّسًا لفتح العالم كلِّه[76]! وصدقت المؤرِّخة الأميركيَّة في وصفها لطموح الفاتح، ولقد كان المؤرِّخ التركي طورسون يصف الفاتح بأنَّه «حاكم العالم» Ruler of the world، وكان كيڤامي أيضًا يصفه بالوصف نفسه، «حاكم العالم»[77]، فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ المؤرِّخين طورسون وكيڤامي كانا معاصِرَين للفاتح أدركنا أنَّ طموح «فتح العالم» هو الذي كان يُحرِّك الفاتح في معاركه ونضاله، وهذا في الواقع يُفسِّر لنا كلَّ شيء![78].
[1] محمد حرب العثمانيون في التاريخ والحضارة [كتاب]. - القاهرة : المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي، 1994م صفحة 192.
[2] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، (2655)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (1904) واللفظ له.
[3] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية [كتاب] / المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل ، 1988م صفحة 1/139.
[4] فيليب مانسيل القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم 1453-1924 [كتاب] / المترجمون مصطفى محمد قاسم. - الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (سلسلة عالم المعرفة)، 2015م صفحة 1/24.
[5] Hosaflook David Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478 [Book]. - Albania : Onufri Publishing House, 2012, p. 227.
[6] أوزتونا، 1988م الصفحات 1/137-138.
[7] Hosaflook, 2012, pp. 224-227.
[8] Hosaflook, 2012, pp. 226-227.
[9] Hosaflook, 2012, p. 216.
[10] Hosaflook, 2012, p. 223.
[11] Hosaflook, 2012, p. 232.
[12] Hosaflook, 2012, p. 220.
[13] Atçıl Abdurrahman Scholars and Sultans in the Early Modern Ottoman Empire [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 2017, p. 59.
[14] Özervarlı M. Sait Islam and Rationality [Book]. - Boston, USA : Brill, 2015, vol. 1, p. 381.
[15] Kuban Doğan Muslim Religious Architecture [Book]. - Boston, USA : Brill, 1985, vol. 2, p. 21.
[16] Finkel Caroline Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923 [Book]. - London UK : John Murray, 2005, p. 101.
[17] الملطي: نيل الأمل في ذيل الدول، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري [كتاب]. - بيروت، لبنان : المكتبة العصرية للطباعة والنشر، 2002م صفحة 7/288.
[18] النهروالي: الإعلام بأعلام بيت الله الحرام، إشراف: سيد عبد الفتاح، تقديم وتحقيق: هشام عبد العزيز عطا [كتاب]. - مكة المكرمة - السعودية : المكتبة التجارية مصطفى أحمد البار، 1996م صفحة 270.
[19] ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط [كتاب]. - دمشق – بيروت : دار ابن كثير، 1986م صفحة 9/517.
[20] الشوكاني: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع [كتاب]. - بيروت، لبنان : دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، 2006م صفحة 823.
[21] السيوطي: نظم العقيان في أعيان الأعيان، تحقيق: فيليب حتي [كتاب]. - بيروت - لبنان : المكتبة العلمية، 1927م صفحة 173.
[22] السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع [كتاب]. - بيروت، لبنان : دار الجيل، 1992م صفحة 10/47.
[23] السخاوي، 1992م صفحة 7/261.
[24] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 199.
[25] Babinger, 1978, p. 407.
[26] Housley Norman The Crusade in the Fifteenth Century: Converging and competing cultures [Book]. - London, UK : Routledge, 2016, p. 198.
[27] Salonen Kirsi Papal Justice in the Late Middle Ages The Sacra Romana Rota [Book]. - London, UK : Routledge, 2016, p. 70.
[28] Cragg Kenneth B Christians and Muslims: From History to Healing [Book]. - Boomington, IN, USA : iUniverse, 2011, p. 121.
[29] Grumeza Ion The Roots of Balkanization: Eastern Europe C.E. 500-1500 [Book]. - Lanham, Maryland, USA : University Press of America, 2010, p. 175.
[30] Spencer William The Land and People of Turkey [Book]. - Philadelphia, PA, USA : Lippincott, 1972, p. 50.
[31] بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، نقله إلى العربية: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي [كتاب]. - بيروت - لبنان : دار العلم للملايين، 1968م صفحة 429.
[32] ديورانت: قصة الحضارة، المترجمون زكي نجيب محمود، وآخرين و تقديم: محيي الدين صابر. - بيروت لبنان : دار الجيل – بيروت لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1988م صفحة 26/58، 59.
[33] Kinross Patrick Balfour Baron The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire [Book]. - London : Cape, 1977, pp. 115-116.
[34] Cazacu Matei Dracula [Book]. - The Netherlands : Brill, Leiden, 2017, p. 156.
[35] Furat Ayşe Zişan and Er Hamit Balkans and Islam: Encounter, Transformation, Discontinuity, Continuity [Book]. - Newcastle, UK : Cambridge Scholars Publishing., 2012, p. 198.
[36] Üçok CoṢkun Türk Hukuk Tarihi Dersleri [Book]. - Ankara : AÜHF Yay, 1972, 5bs, , p. 146.
[37] Peters F. E. The Monotheists: Jews, Christians, and Muslims in Conflict and Competition [Book]. - Princeton, New Jersey , USA : Princeton University Press, 2005, vol. 2, p. 122.
[38] Locke Edwin A. and Latham Gary, p. Building a Practically Useful Theory of Goal Setting and Task Motivation A 35-Year Odyssey [Book Section] // The American Psychologist / book auth. Association American Psychological. - USA : American Psychological Association, et al., 2002, vol. 57, n (9), pp. 705-717.
[39] Thorpe, N., and Evershed, R. P. The earliest horse harnessing and milking. Science [Book]. - New York : N.Y, 2009, p. 318.
[40] Lewis, 1993, p. 74.
[41] البخاري: كتاب الصوم، باب هل يخص شيئًا من الأيام (1886)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (783) واللفظ له.
[42] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (782)، وأحمد (25512)، وأبو يعلى، 1984م (4533).
[43] البخاري: كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة (6133)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب قوله r الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (2547) واللفظ له.
[44] أوزتونا، 1988م صفحة 1/169.
[45] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 75.
[46] Kinross, 1977, p. 157.
[47] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 250.
[48] Sundar Geeta and G Vassilakis Health After Forty [Book]. - India : Macmillan Publishers India Limited., 2002.
[49] مسلم: كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا (2750)، والترمذي (2514).
[50] Peirce Leslie The Imperial Harem: Women and Sovereignty in the Ottoman Empire [Book]. - NEW YORK, USA : Oxford University Press, 1993, p. 120.
[51] Edmonds Anna G. Turkey's religious sites [Book]. - [s.l.] : Damko, Religious institutions, 1997, p. 211.
[52] Sakaoğlu Necdet Famous Ottoman women [Book]. - Istanbul, Turkey : Creative Yayincilik, Avea, 2007, p. 69.
[53] أحمد آق كوندز و سعيد أوزتورك الدولة العثمانية المجهولة [كتاب]. - إستانبول : وقف البحوث العثمانية، 2008م صفحة 122.
[54] Stavrides Theoharis The Sultan of vezirs : the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474) [Book]. - Leiden : Brill Academic Publishers, Inc, 2001, p. 351.
[55] Babinger, 1978, pp. 57-58.
[56] آق كوندز، وآخرون، 2008م صفحة 122.
[57] Stavrides, 2001, p. 101.
[58] Babinger, 1978, p. 173.
[59] آق كوندز، وآخرون، 2008م صفحة 122.
[60] القرماني: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: الدكتور أحمد حطيط، الدكتور فهمي السعيد - [مكان غير معروف] : عالم الكتب، 1992م صفحة 3/36.
[61] Goffman, 2002, p. 61.
[62] السخاوي، 1992م صفحة 10/47.
[63] Anooshahr Ali The Ghazi Sultans and the Frontiers of Islam [Book]. - London, UK : Routledge, 2009, p. 164.
[64]عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ r يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب ما يتعوذ من الجبن (2668)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره (2706).
[65] Alchon Suzanne Austin A Pest in the Land [Book]. - Albuquerque, USA : University of New Mexico Press, 2003, p. 21.
[66] Horrox Rosemay The Black Death [Book]. - Manchester, UK : Manchester University Press, 1994, p. 3.
[67] Feldman Ruth Tenzer The Fall of Constantinople [Book]. - Minneapolis, MN, USA : Twenty-First Century Books, 2007, p. 111.
[68] Kritovoulos History of Mehmed the Conqueror [Book] / trans. Riggs Charles T.. - [s.l.] : Greenwood Press, Westport, Connecticut, 1954, p. 220.
[69] Lowry Heath W. Studies on 15th and 16th Century Ottoman Society [Book]. - USA : Isis Press, 2008, p. 42.
[70] Woodhead Christine The Ottoman World [Book]. - New York, USA : Routledge, 2012, pp. 251-263.
[71] Lowry, 2008, p. 26.
[72] Woodhead, 2012, pp. 251-263.
[73] Freely John Istanbul: The Imperial City [Book]. - New York, USA : Viking, 1996, p. 188.
[74] أحمد (6958)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وابن حبان، 1993م (11)، وصححه الألباني، 2003م (11).
[75] Uyar Mesut and Erickson Edward J A Military History of the Ottomans: From Osman to Atatürk [Book]. - Santa Barbra, USA : ABC CLIO,., 2009, p. 67.
[76] Darling Linda T. A History of Social Justice and Political Power in the Middle East [Book]. - london, UK : Routledge, 2013, p. 131.
[77] Hosaflook, 2012, pp. 217-221.
[78] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 821- 845.
التعليقات
إرسال تعليقك